في قلب جبل العرب، حيث تمتدّ مدينة السويداء كعاصمة للطائفة الدرزية في سوريا، يقف رجلٌ واحدٌ في مركز عاصفةٍ سياسيةٍ تُهدِّد بإعادة تشكيل خريطة الجنوب السوري. إنّه الشيخ حكمت سلمان الهجري، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، الذي تحوَّل من مؤيِّدٍ مطلقٍ لنظام بشار الأسد إلى أحد أبرز معارضيه، ومن داعيةٍ للوحدة السورية إلى منادٍ بالتدخّل الدولي، بل وصل الأمر إلى حدّ وصفه بـ”العميل الإسرائيلي” شخصيةٌ معقّدةٌ ومثيرةٌ للجدل، وُلد في فنزويلا ونشأ في أحراش السويداء، ووصل إلى قمّة الهرم الديني للطائفة الدرزية في ظروفٍ غامضة، ليجد نفسه اليوم في قلب أزمةٍ سياسيةٍ تتجاوز حدود سوريا لتصل إلى أروقة البيت الأبيض والكنيست الإسرائيلي. من هو حكمت الهجري؟ وكيف تطوّرت مواقفه السياسية عبر السنين؟ وما حقيقة علاقاته المزعومة بإسرائيل؟ وإلى أيّ مدى يُمثّل الطائفة الدرزية في سوريا؟ من كاراكاس إلى قنوات في التاسع من يونيو عام 1965، وُلد حكمت سلمان الهجري في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، حيث كان والده الشيخ سلمان أحمد الهجري يعمل في ذلك الوقت. هذه الولادة في المنفى ستُصبح لاحقًا رمزًا لحياةٍ مليئةٍ بالتنقّلات والتقلّبات السياسية، كما لو أن القدر كان يُعِدّ هذا الطفل لمستقبلٍ يتأرجح بين الانتماءات والولاءات المختلفة. عاد الطفل حكمت مع عائلته إلى سوريا في سنٍّ مبكرة، ليُكمل تعليمه الأساسي والثانوي في محافظة السويداء، تلك المنطقة الجبلية التي تُعتبر معقل الطائفة الدرزية في سوريا. نشأ في بيئةٍ دينيةٍ محافظة، حيث كان والده من رجال الدين المحترَمين في الطائفة، ممّا وفّر له أرضيةً صلبةً للتدرج في السُّلَّم الديني لاحقًا. بعد إنهاء دراسته الثانوية، التحق حكمت الهجري بكلية الحقوق في جامعة دمشق، حيث تخرّج عام 1990. هذه المرحلة الجامعية في العاصمة السورية كانت حاسمةً في تشكيل وعيه السياسي والقانوني، حيث تعرّض لأفكارٍ ومفاهيم جديدة خارج البيئة المحلية المحدودة للسويداء. خلال سنوات الدراسة الجامعية، شهدت سوريا تحوّلاتٍ سياسيةً مهمّة، حيث كان حافظ الأسد في أوج قوّته، والنظام السوري يُرسّخ أُسس دولة الحزب الواحد. هذه البيئة السياسية المغلقة والمحكومة بقبضةٍ أمنيةٍ صارمة تركت أثرًا عميقًا على جيلٍ كامل من الشباب السوري، بمن فيهم حكمت الهجري، الذي سيُظهِر لاحقًا تقلباتٍ في مواقفه تجاه النظام السوري. بعد التخرّج من كلية الحقوق، اختار حكمت الهجري العودة إلى السويداء والتفرغ للشؤون الدينية والاجتماعية للطائفة الدرزية. هذا القرار لم يكن مفاجئًا، نظرًا لخلفيته العائلية الدينية، لكنه كان بداية رحلةٍ طويلة نحو قمة الهرم الديني للطائفة. تدرّج الهجري في المناصب الدينية، مستفيدًا من مكانة والده وشقيقه أحمد الهجري الذي كان يشغل منصب شيخ العقل. خلال هذه الفترة، بدأ في بناء شبكة علاقات واسعة داخل الطائفة وخارجها، مما مهّد له الطريق للوصول إلى المنصب الأعلى في الهرم الديني الدرزي. موتٌ غامض وخلافةٌ مثيرة في عام 2012، شهدت الطائفة الدرزية في السويداء حدثًا مأساويًا غيّر مجرى تاريخها الديني والسياسي. تُوفِّي الشيخ أحمد الهجري، شقيق حكمت وشيخ عقل الطائفة آنذاك، في حادث سير وُصف بالغامض. هذه الوفاة المفاجئة فتحت الباب أمام حكمت الهجري للوصول إلى أعلى منصب ديني في الطائفة الدرزية السورية. الظروف المحيطة بوفاة أحمد الهجري أثارت تساؤلات كثيرة داخل الطائفة وخارجها، فقد جاءت الوفاة في وقتٍ حسّاس، حيث كانت سوريا تشهد بدايات الثورة والاضطرابات السياسية التي ستعصف بالبلاد لسنوات طويلة. بعض المصادر تشير إلى أن أحمد الهجري كان يتخذ مواقف أكثر حذرًا تجاه النظام السوري مقارنةً بشقيقه حكمت، مما يضيف طبقة إضافية من الغموض حول ملابسات الوفاة. خلف حكمت الهجري شقيقه في منصب شيخ العقل في ظروف استثنائية، حيث كانت سوريا تغرق في أتون حربٍ أهلية مدمّرة. هذا التوقيت الحساس وضع الهجري الجديد أمام تحدياتٍ جسيمة، حيث كان عليه أن يُحدّد موقف الطائفة الدرزية من الصراع الدائر في البلاد. منذ اللحظة الأولى لتولّيه المنصب، أظهر حكمت الهجري ميولًا سياسية واضحة، على عكس التقاليد الدرزية التي تدعو إلى الحياد والابتعاد عن الصراعات السياسية. في أول ظهور علني له بعد وفاة شقيقه، ألقى كلمة أمام جمعٍ من أبناء الطائفة أعلن فيها تأييده الواضح لنظام بشار الأسد، مما أثار استياء قطاعاتٍ واسعة من الدروز الذين كانوا يُفضّلون الحياد. بناء الشرعية الدينية والسياسية لم يكن وصول حكمت الهجري إلى مشيخة العقل مجرّد وراثة تقليدية، بل تطلّب منه بناء شرعية دينية وسياسية في ظروفٍ معقّدة. استغل الهجري خلفيته القانونية ومهاراته الخطابية لترسيخ موقعه كزعيمٍ ديني، لكنه في الوقت نفسه بدأ بالتدخّل بشكلٍ متزايد في الشؤون السياسية. خلال السنوات الأولى من تولّيه المنصب، ركّز الهجري على توطيد علاقاته مع النظام السوري، معتبرًا أن هذا التحالف يُوفّر الحماية للطائفة الدرزية في ظل الفوضى التي تعم البلاد. هذا الموقف جلب له دعمًا من قطاعات معينة داخل الطائفة، خاصةً تلك التي كانت تخشى من تداعيات سقوط النظام على مصير الأقليات في سوريا. بدأ خطاب الهجري يتبدّل. الشيخ الذي كان يتجنّب الظهور في صراعات داخلية، صار يصدر بيانات سياسية تصعيدية. وصار واضحًا أن حضوره لا يقتصر على منبر الصلاة، بل صار أقرب إلى “زعيم طائفة”، لا مجرد شيخها عندما كان “رجل الأسد” منذ تولّيه مشيخة العقل عام 2012 وحتى عام 2021، شكّل حكمت الهجري نموذجًا للولاء المطلق لنظام بشار الأسد. لم يكن هذا التأييد مجرد موقفٍ سياسيٍّ حذر أو براغماتي، بل كان تأييدًا عقائديًّا وشخصيًّا وصل إلى حد التماهي الكامل مع النظام وسياساته. في عام 2014، وخلال الحملة الانتخابية الرئاسية التي أعاد فيها بشار الأسد انتخاب نفسه لولاية ثالثة، ظهر حكمت الهجري في مقدّمة المؤيدين للرئيس السوري. لم يكتفِ الهجري بالتأييد الصامت، بل نظّم فعاليات ومهرجانات في السويداء لدعم حملة الأسد الانتخابية، وألقى خطابات حماسيّة وصف فيها الأسد بـ”القائد الحكيم” و”رمز الوحدة الوطنية”. لم يقتصر تأييد الهجري للنظام على الجانب السياسي فحسب، بل امتدّ إلى الجانب العسكري أيضاً. في عدّة مناسبات، أصدر الهجري بيانات يدعو فيها أبناء الطائفة الدرزية للالتحاق بقوات النظام السوري والمشاركة في “الدفاع عن الوطن” ضدّ ما وصفهم بـ”الإرهابيين والتكفيريين”. العلاقات مع قيادات النظام خلال سنوات التأييد المطلق، طوّر حكمت الهجري علاقات شخصية وثيقة مع قيادات النظام السوري على مختلف المستويات. هذه العلاقات لم تكن مجرد علاقات بروتوكولية، بل كانت علاقات عمل وتنسيق مستمر، خاصة مع أجهزة الأمن والمخابرات السورية. كشفت وثائق مسرّبة أن الفرع 312 التابع للمخابرات الجوية السورية قام بتسليم دفعات من الأسلحة والذخائر لمرافقي الشيخ الهجري في أواخر عام 2023، خلال تصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الأسد في السويداء. هذه الوثائق تشير إلى عمق العلاقة بين الهجري والنظام، وتطرح تساؤلات حول طبيعة هذه العلاقة ومدى تأثيرها على مواقفه السياسية اللاحقة. لم يكن تأييد الهجري للنظام مجرد موقف انتهازي أو براغماتي، بل كان مدعومًا بتبريرات أيديولوجية ودينية. في خطاباته ومقابلاته خلال تلك الفترة، كان الهجري يؤكّد أن دعم النظام السوري يأتي من
الفارق بين أبو محمد الجولاني وأحمد الشرع، يبدو أكثر بُعدًا ممّا يتخيله كثيرون. لِمن يعرف الجولاني جيدًا، يعرف أن الرجل يُدرك كيف يحقق المكاسب في أصعب الظروف والأوقات. فمَن يرى في الانكفاء الحكومي عن “معركة السويداء” نهاية القصة، سيجد نفسه قريبًا أمام معطيات تُؤشّر بوضوح أن الرجل لا يمكن أن يحتمل خسارة معركة كالسويداء، لأنّ ذلك سيعني نهاية “حُلم” أو مشروع أكبر منه على المستوى الشخصي. وهو أمر لا يحمله في الرؤية التي يصوغها على الناعم وسط حقل من الألغام
بين الظلّ والضوء، تبرز «العصائب الحمراء» كواحدةٍ من أبرز التشكيلات العسكرية الغامضة والفاعلة ضمن جهاز هيئة تحرير الشام. ورغم أن الاسم قد لا يتردد كثيرًا في وسائل الإعلام، إلا أن هذه القوّة الخاصّة تُعَدّ رأس الحربة في العمليات النوعية، وقوّة النخبة التي يُعوَّل عليها في المهام القتالية الحساسة منذ أيام، ترددت معلومات لم يتم التأكد من صحّتها عن وجود مجموعات من «العصائب» على الحدود اللبنانية–السورية. فهل سيكون لهذه المجموعة دورٌ مرتقب في تحديد معالم المرحلة المقبلة بين البلدين، ورسم مسار جديد للعلاقة بينهما؟ أم أن الحديث عنها لا يعدو كونه مجرّد فقاعة إعلاميّة؟ لكن… ما هي «العصائب الحمراء»؟ كيف نشأت؟ وما هي هيكليتها، تدريباتها، أبرز عملياتها، ودورها المحوري في المشهد العسكري السوري؟ النشأة والتطور ظهر اسم «العصائب الحمراء» للمرّة الأولى أواخر عام 2016 خلال معارك حلب المفصلية، أو في عام 2018 وفقًا لمصادر أخرى. تُوصَف هذه القوات بأنها “القوات الانغماسية” لهيئة تحرير الشام، وهي قوّة نخبة قُدّرت بالمئات عند تأسيسها، وتضمّ مقاتلين من جنسيات عربية وآسيوية مختلفة. منذ عام 2021، بدأت «العصائب الحمراء» بفتح باب التجنيد، مقدّمةً رواتب مغرية مقارنةً بالفصائل الأخرى. كما تتلقّى تدريبًا عسكريًّا مختلفًا، وتُزوَّد بأسلحة نوعية. وقد ظهر زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، الرئيس السوري الحالي، وهو يضع عصابة حمراء حول رأسه، إلى جانب عناصر العصائب، فيما يُعرف بـ”بيعة الموت”، حيث يُؤدّي المقاتلون قَسَمًا أمام الزعيم، في إشارة إلى الولاء والاستعداد للتضحية. تُعدّ العصائب الحمراء أقوى تشكيلات الهيئة، وتُسنَد إليها المهام الأكثر صعوبة، نظراً لقدرتها العالية على الاختراق والعمل الميداني المعقّد. وقد مثّلت هذه القوّة حجر الأساس في ما أطلقت عليه الهيئة اسم “عملية ردع العدوان”. الهيكلية والتدريب تتكوّن «العصائب الحمراء» من مئات المقاتلين المعروفين بقدراتهم القتالية العالية وتدريبهم المكثف. وتُسنَد إليهم المهام العسكرية الأكثر خطورة، ما يتطلّب مستوى عالياً من الجاهزية والانضباط. يتلقّى أفرادها تدريبات متقدمة تختلف عن برامج تدريب باقي المقاتلين في الفصائل المسلحة، وتتركّز على الاقتحام، التوغّل خلف خطوط العدو، والعمليات الانغماسية. بالإضافة إلى ذلك، تُزوّد الوحدة بأسلحة نوعية ومتطورة تُعزّز من كفاءتها الهجومية والدفاعية. كما تضمّ العصائب مجموعاتٍ متخصصة من القناصين الذين يتلقّون تدريبًا دقيقًا على استخدام البنادق القناصة، وقد نفّذوا بالفعل عمليات قنص ناجحة. وتُظهِر الإصدارات المرئية الصادرة عن مؤسسة «أمجاد للإنتاج المرئي» (الذراع الإعلامي للهيئة) مدى جاهزية العصائب واحترافيتها، ما يعكس الاستثمار العالي في بناء هذه القوة النوعية. تتكوّن «العصائب الحمراء» من مئات المقاتلين المعروفين بقدراتهم القتالية العالية وتدريبهم المكثف. وتُسنَد إليهم المهام العسكرية الأكثر خطورة، ما يتطلّب مستوى عالياً من الجاهزية والانضباط العمليات والمهام تتنوع مهام العصائب لتشمل: الاقتحامات المباشرة تفجير العربات المفخخة، عمليات “الاستشهادية” أو الانغماسية، القنص الدقيق في الخطوط الأمامية. يتميّز هذا التشكيل بقدرته على توثيق العمليات بدءًا من التخطيط والتحرّك، وصولًا إلى الاشتباك المباشر، وذلك في سياق دعائي يعكس الثقة بالنفس. ومن أبرز ما أُشير إليه في هذا السياق، عملية اختراق تحصينات مدينة حلب والتسلل إلى غرفة العمليات التي كانت تحت حماية الحرس الثوري الإيراني. لا تقتصر وظيفة «العصائب الحمراء» على القتال فقط، بل تتجاوزها لتُشكّل ركيزةً أساسية في إستراتيجية الهيئة العسكرية. فهي القوّة الضاربة، العنصر الحاسم في المواجهات، والأداة التي تُوظَّف في معارك الحسم والاستعراض معًا. التسمية والرمزية والسرية الاسم بحدّ ذاته يحمل رمزية دينية وعسكرية تعبويّة. “العصائب الحمراء” تُحيل إلى مفهوم الفداء والشهادة، وترتبط في المخيال الجهادي بمشاهد “البيعة” و”الاستعداد للموت”. وارتداء العصابة الحمراء خلال المعارك يُفهم على أنه إعلان نية القتال حتى النهاية. لكن ما يلفت النظر أكثر من الاسم، هو السرية المطلقة التي تحيط بهذه القوّة. لا تُعرَف أسماء قادتها. لا يُسمَح لأفرادها باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي. يخضع المنتمون لها لفترة تجريبية صارمة قبل تثبيتهم، مع تعهدات بولاءٍ مطلق والتزامٍ حديدي. هل هي على الحدود اللبنانية فعلًا؟ حتى الآن، لا يمكن تأكيد وجودٍ مباشر للعصائب الحمراء على الحدود اللبنانية–السورية، لكن مجرّد تداول الأمر يعكس مستوى الحذر والقلق الإقليمي من تحرّكات الهيئة وتوسّعها المحتمل. إنّ أيّ انتقال أو تموضع خارج إدلب سيُعدّ تطوّرًا خطيرًا، خصوصًا إذا رافقه تغطية إعلامية أو سياسية. ولأنّ «العصائب الحمراء» ليست مجرد وحدة نخبة بل أداة عسكرية–رمزية–استخبارية متكاملة، فإنّ دخولها إلى ساحة لبنانية سيحمل معه رسائل عميقة تتجاوز حدود الاشتباك.