بعد عامٍ على سُقوطِ نِظامِ بَشّارِ الأسد، يَقِفُ أحمدُ الشَّرع، المَعروفُ سابِقًا بـ”أبو مُحمَّدٍ الجولاني”، في قَلبِ المُعادلةِ السُّوريّةِ الجديدة. الرَّجُلُ الّذي قادَ هُجومَ المُعارَضةِ الخاطِفَ نحو دِمشق، يَتربَّعُ اليومَ على رأسِ السُّلطةِ الانتقالية، ويُواجِهُ سُؤالًا مَصيريًّا يَتردَّدُ في أروِقةِ السّياسةِ الإقليميّةِ والدَّولية: هل هو مُجرَّدُ قائِدٍ لِمَرحلةٍ انتقاليةٍ سيُسَلِّمُ بَعدَها السُّلطة؟ أم أنّهُ يَطمَحُ لِيكونَ حاكِمَ سوريّا الدّائم؟ التَّحوُّلُ البِراغماتي لِفَهمِ مُستقبلِ أحمدَ الشَّرع، لا بُدَّ من فَهمِ ماضِيه. لقد أظهرَ الرَّجُلُ قُدرةً لافِتةً على التَّحوُّلِ والتَّكَيُّف، مِن زَعيمٍ لِجبهةِ النُّصرةِ التّابعةِ لِتنظيمِ القاعِدة، إلى قائِدٍ لِهيئةِ تَحريرِ الشّام الّتي فَكَّتِ ارْتِباطَها بِالتّنظيماتِ العالميّة، وُصولًا إلى شَخصيّةٍ سياسيّةٍ بِراغماتيةٍ تُقَدِّمُ نَفسها كَبَديلٍ مَقبولٍ مَحليًّا ودَوليًّا. لم يَكُن هذا التَّحوُّلُ مُجرَّدَ تَغييرٍ في الِاسْم، بَل كانَ استِراتيجيّةً مَدروسةً تَضَمَّنَت عِدّةَ عَناصِرَ أساسيّة. أَوَّلُها كانَ فَكَّ الِارْتِباطِ الأيديولوجي، مِن خِلالِ الِابتِعادِ عنِ الخِطابِ الجِهاديِّ العالَميّ والتَّركيزِ على “الشَّأنِ السُّوريِّ” حصرًا. ثانيها تَمثَّلَ في بُناءِ مُؤسَّساتِ حُكمٍ عَبرَ إنشاءِ “حُكومةِ الإنقاذ” في إدلب، كَنَموذَجٍ أَوَّليٍّ لإدارةِ المَناطِقِ المُحرَّرة، مِمّا أعطى انطِباعًا بِالقُدرةِ على الحُكمِ وليس مُجرَّدِ القِتال. ثالثها كانَ الِانفِتاحَ على الخَارِجِ، مِن خِلالِ إجْراءِ مُقابَلاتٍ مع وَسائلِ إعلامٍ غَرْبيةٍ وتَقديمِ تَطميناتٍ لِلأقلّياتِ والقُوى الإقليميّةِ والدَّولية. هذهِ البِراغماتيةُ هي الّتي مَكَّنتهُ مِن تَوحيدِ فَصائِلِ المُعارَضة، وكَسبِ قَبولٍ ضِمنيٍّ مِن قُوى دَوليةٍ كانَت تَراهُ إرهابيًّا، وُصولًا إلى قِيادةِ المَرحلةِ الانتقاليةِ في دِمشق. نَجَحَ الشَّرع في تَقديمِ نَفسهِ كَرَجُلِ دَولةٍ واقِعيّ، قادِرٍ على التَّعامُلِ مع التَّعقيداتِ السياسيّةِ والأمنيّة، بَعيدًا عنِ الأيديولوجيا الصَّلبة الّتي مَيَّزتْ بداياتِه. حَقلُ ألغامٍ يُهَدِّدُ الِاستقرار على الرَّغمِ مِنَ النَّجاحِ العَسكريِّ والسّياسيّ، يَسيرُ الشَّرعُ على حَبلٍ مَشدودٍ داخليًّا. فالتَّحدّياتُ الّتي تُواجِهُهُ هائلة، وأيُّ خَطأٍ في التَّعامُلِ مَعها قد يَنسِفُ المَرحلةَ الانتقاليةَ بِأكمَلِها. وَرِثَتِ الحُكومةُ الانتقاليةُ اقتصادًا مُدمَّرًا وبُنيةً تَحتيةً مُهترئة. تُشيرُ التَّقديراتُ إلى أنّ الاقتصادَ السُّوريَّ خَسِرَ نحو ثَمانمِئةِ مِليارِ دولار خِلالَ سَنواتِ الحَرب، ودُمِّرتِ البُنيةُ التَّحتيةُ بشكلٍ شِبهِ كامِل، وانْهارَتِ القِطاعاتُ الِإنتاجية، ووَصَلَت نِسبةُ الفَقرِ إلى ما يُقارِبُ تِسعين في المِئة. ورَغمَ رَفعِ بَعضِ العُقوباتِ الدَّولية، فإنّ إعادةَ الإعمارِ تَتطلّبُ مِلياراتِ الدَّولاراتِ واسْتقرارًا أمنيًّا وسياسيًّا لِجَذبِ الِاستثمارات. الفَشلُ في تَحسينِ الوَضعِ المَعيشيِّ لِلسُّوريين بشكلٍ مَلموسٍ وسَريع قد يُؤدّي إلى اضطِراباتٍ اجتماعيةٍ تُقَوِّضُ شَرعِيّةَ السُّلطةِ الجديدةِ وتُهَدِّدُ استِقرارَها. قد يَرى الشَّرعُ أنّ بَقائَه في السُّلطة ضَروريٌّ لِلحِفاظ على الِاستقرارِ ومَنعِ انزِلاقِ البِلاد مُجدَّدًا نحوَ الحَربِ الأهليّة. في هذا السِّيناريو، قد يَعمَلُ على تَرسِيخِ حُكمِه مِن خِلالِ تَعديلاتٍ دُستوريةٍ أو انتِخاباتٍ شَكلية العَدالةُ الانتقالية يُطالِبُ مَلايينُ السُّوريين بالعَدالةِ والمُحاسبةِ عن جَرائمِ الحَربِ الّتي ارْتُكِبَت على مَدى عُقود. أطلقَ الشَّرعُ مَشروعًا لِلعَدالةِ الانتقالية، لكنّهُ يُواجِهُ مَعْضِلةَ التَّوازُنِ الدَّقيق بينَ مَطلبِ المُحاسبةِ الكامِلةِ وضَرورةِ المُصالحةِ الوَطنية، خاصّةً مع وُجودِ آلافِ المُتورِّطين السّابِقين في مُؤسّساتِ الدَّولة الّذين لا يُمكِنُ الِاستغناءُ عنهم لِإدارةِ البِلاد. كما يُواجِهُ الشَّرعُ تَحدّي طَمأنةِ الأقَلّياتِ الدّينيةِ والإثنية، خاصّةً العَلويةَ والمَسيحيةَ والدّرزيةَ والكُردية، الّتي كانَت تَخشَى مِن خَلفيّتهِ الإسلاميةِ وماضيه الجِهادي. وقد أظهرَ مَرونةً سياسيةً مَلحوظةً وأكّد مِرارًا على الوَحدةِ الوطنيةِ واحترامِ التَّنوّع، لكنّ بُناءَ الثّقةِ الحقيقيّةِ يَتطلّبُ أكثَرَ مِن خِطابات. يَحتاجُ إلى إجراءاتٍ مَلموسةٍ تَضمنُ حُقوقَ كافّةِ المُكوِّناتِ في الدُّستورِ الجديدِ والمُؤسّساتِ الحُكومية، وتَمنَعُ أيَّ تَمييزٍ أو تَهميش. أيُّ حادِثةٍ طائفيةٍ أو انتِهاكٍ لِحُقوقِ الأقَلّيات قد يُشعِلُ فَتيلَ صِراعٍ جديدٍ ويُقَوِّضُ كُلَّ ما تَمَّ بُناؤه. ولا يَحظى الشَّرعُ بإجماعٍ كامِل داخلَ المُعارَضةِ السُّوريةِ نَفسها. فهُناكَ انتِقاداتٌ مِن شَخصياتٍ مُعارِضةٍ علمانيةٍ ولِيبرالية تَخشى مِن هَيمنةِ تَيّاره الإسلاميّ على مُستقبلِ سوريّا، وتُطالِبُ بِمُشاركةٍ أوسَع في السُّلطة وضَماناتٍ أكبر لِلحُريّاتِ المدنية. كما أنّ سُلوكَ بَعضِ مُؤيّديه المُتشدّدين يُثيرُ مَخاوِفَ مِن عَودةِ أساليبِ القَمعِ القديمة، مِمّا يَضَعُ الشَّرع أمامَ تَحدّي ضَبطِ قائِدتهِ الشَّعبية وتَطويرِ خِطابِه ليكونَ أكثَرَ شُموليةً وديمقراطية. لُعبةُ الأُمَم يَعتمدُ مُستقبلُ الشَّرع بشكلٍ كبيرٍ على قُدرتهِ على إدارةِ شَبكةٍ مُعقّدةٍ مِن العَلاقاتِ الخارجية. وقد نَجَحَ حتّى الآن في تَحقيقِ قَبولٍ دَوليٍّ واسِع، لكنّ هذا القَبولَ مَشروطٌ ومَحفوفٌ بالمَخاطر. صَفَ الشَّرعُ عَلاقاتِه مع تُركيا والسّعودية وقطر والإمارات بـ”المِثالية”، ومع مِصرَ والعِراقِ بـ”المَقبولة”. هذا الدَّعمُ الخَليجيُّ والتُّركيُّ أساسيٌّ لِتحقيقِ الِاستقرارِ الاقتصاديّ والسياسيّ. تُركيا تُعَدُّ الدّاعمَ الأكبرَ له، سواءً عَسكريًّا أو سياسيًّا، ولَها مَصالِحُ استراتيجيّةٌ في استقرارِ سوريّا وعَودةِ اللاجئين. أمّا دُوَلُ الخليج، فَتَنظُرُ إليه كَحَليفٍ مُحتَمَلٍ في مُواجهةِ النُّفوذِ الإيراني، وهي مُستعِدّةٌ لِضَخِّ استِثماراتٍ ضَخمة شَرطَ أن يَلتزِمَ بِخطٍّ سياسيٍّ مُعتدِلٍ ومُنفتح. لكنّ هذا الدَّعمَ ليسَ مُطلَقًا، وقد يَتراجعُ إذا شَعرت هذه الدُّوَل بأنّ الشَّرعَ يَنحَرِفُ نحو التَّطرُّفِ أو يَفشَلُ في تَحقيقِ الِاستقرار. القَبولُ الغَربي يَبدو أنَّ الولاياتِ المتحدةَ وأوروبا تُعامِلانِ الشَّرعَ بمَنطِقِ “الرَّجُلِ المَوجود” الّذي يُمكِنُهُ تَحقيقُ الِاستقرارِ ومَنعُ عَودةِ الفَوضى أو صُعودِ جَماعاتٍ مُتطرِّفةٍ أخرى. وقد حَظيَ بِدَعمٍ أمريكيٍّ مُباشِرٍ مِن إدارةِ ترامب، الّتي رَأت فيهِ فُرصةً لِإخراجِ النُّفوذِ الإيرانيّ مِن سوريّا وإعادةِ تَوجيهِ البِلاد نحوَ المَعسكرِ الغَربيّ. لكنّ هذا الدَّعمَ سيَبقى مَرهونًا بِمدى التِزامِه بِالتحوُّلِ الدّيمقراطيّ وحُقوقِ الإنسانِ واحترامِ الأقَلّيات. أيُّ انتِهاكاتٍ جَسيمةٍ أو تَحوُّلٍ نحوَ الِاستبداد قد يَقلبُ الموقِفَ الغَربيَّ ضِدَّه، خاصّةً مع وُجودِ ضُغوطٍ مِن مُنظَّماتِ حُقوقِ الإنسانِ ومَجموعاتِ الضَّغطِ في الغَرب. ورَغمَ أنّ رُوسيا كانَتِ الدّاعمَ الأكبرَ لِنظامِ الأسد، إلّا أنّها تَعامَلَت بواقِعيةٍ مع سُقوطِه. وقد أكّدَ الشَّرعُ على وُجودِ “مَصالِحَ استراتيجيّة” مع موسكو، في إشارةٍ إلى رَغبتهِ في الحِفاظِ على عَلاقةٍ تَضمنُ عَدَمَ تَحوُّلِ رُوسيا إلى قُوّةٍ مُعرقلة. رُوسيا لَديها قَواعِدُ عَسكريةٌ في سوريّا تَعتبِرُها حَيويةً لِنفوذِها في المتوسِّطِ والشّرقِ الأوسط، وهي مُستعدّةٌ لِلتَّعامُلِ مع أيِّ قِيادةٍ تَضمنُ هذهِ المَصالِح. هذهِ البِراغماتيةُ المُتبادَلة قد تَسمَحُ بِبِناءِ عَلاقةٍ جديدة، لكنها ستَبقى هَشّةً وقابِلةً لِلتَّغَيُّرِ بِحَسَبِ التَّطوّراتِ الإقليميّةِ والدَّولية. سِيناريوهاتُ المُستقبل بِناءً على ما سَبق، يُمكِنُ رَسمُ ثلاثةِ سِيناريوهاتٍ رَئيسيةٍ لِمُستقبلِ أحمدَ الشَّرع في السُّلطة: “رَجُلُ الدَّولة” الّذي يُسَلِّمُ السُّلطةفي هذا السِّيناريو، يَنجَحُ الشَّرعُ في قِيادةِ مَرحلةٍ انتقاليةٍ ناجِحة، ويُشرفُ على صِياغةِ دُستورٍ جديدٍ يَضمنُ الحُرياتِ والحُقوق، وبِناءِ مُؤسّساتِ دَولةٍ قَوِيّةٍ ومُستقلّة، وإجراءِ انتِخاباتٍ حُرّةٍ ونَزيهةٍ تحتَ إشرافٍ دَوليّ، ثُمَّ يُسَلِّمُ السُّلطةَ طَوعًا لِحُكومةٍ مُنتخَبة. هذا الخِيارُ سيُكَرِّسُ صُورَته كَبَطلٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ ومُؤَسِّسٍ لِسوريّا الجديدة. “الحاكِمُ القَوِيّ” الّذي يَبقى في السُّلطةقد يَرى الشَّرعُ أنّ بَقائَه في السُّلطة ضَروريٌّ لِلحِفاظ على الِاستقرارِ ومَنعِ انزِلاقِ البِلاد مُجدَّدًا نحوَ الحَربِ الأهليّة. في هذا السِّيناريو، قد يَعمَلُ على تَرسِيخِ حُكمِه مِن خِلالِ تَعديلاتٍ دُستوريةٍ أو انتِخاباتٍ شَكلية، مُتَحوِّلًا بِالتَّدريجِ مِن قائِدٍ انتقالِيٍّ إلى رَئيسٍ دائِم. الانهيارُ والفَوضىفي هذا السِّيناريو، يَفشَلُ الشَّرعُ في إدارةِ التَّحدّياتِ أو يَفقِدُ الدَّعمَ الخارجيَّ الحاسم، مِمّا قد يُؤدّي إلى انزِلاقِ البِلاد نحوَ الفَوضى مُجدَّدًا. الإجابةُ على سُؤالِ "هل يُكمِلُ الشَّرعُ في حُكمِ سوريّا؟" ليست بَسيطةً ولا حَتمية. فالرَّجُلُ الّذي أظهرَ دهاءً سياسيًّا استثنائيًّا وقُدرةً على التَّحوُّل، يُواجِهُ اليومَ اختِبارًا تاريخيًّا. إنَّ مُستقبلهُ السياسيَّ، ومُستقبلَ سوريّا بأكمَلِها، مَرهونٌ بِقُدرتهِ على تَرجمةِ وُعودهِ بالإصلاحِ والعَدالةِ والدّيمقراطية إلى واقِعٍ مَلموس.
لم يكن الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 يومًا عابرًا في تاريخ سوريا والمنطقة؛ كان لحظةً صاعقة أطاحت بحكمٍ دام أكثر من خمسين عامًا، وأغلقت فصلًا طويلًا من الاستبداد الدموي الذي بدأ مع حافظ الأسد واستمرّ مع وريثه.سقوط النظام لم يكن حدثًا سوريًا فقط، بل زلزالًا جيوسياسيًا هزّ موازين القوى، وفتح الباب على مرحلة جديدة تُعيد رسم خرائط النفوذ والتحالفات. جذور الغضب الثورة السورية لم تولد من فراغ؛ كانت نتيجة تراكمٍ خانق لعقود من الاستبداد السياسي، والفساد البنيوي، والتهميش الاجتماعي.منذ “الحركة التصحيحية” عام 1970، أنتج نظام البعث دولةً أمنيةً متغوّلة، عطّلت السياسة، وخنقت المجتمع، وأطلقت يد المخابرات لتتحكم في تفاصيل الحياة اليومية.مجزرة حماة 1982 لم تكن مجرد محطة دامية، بل صكّ ملكية للنظام في ممارسة الوحشية.ثم جاء بشار الأسد، فحوّل الإرث القمعي إلى إعادة تدوير للفساد بشكل “نيوليبرالي” زاد الأغنياء ثراءً، وترك ملايين السوريين فريسة الفقر والجفاف والبطالة. عندما اعتُقل أطفال درعا عام 2011 لأنهم كتبوا “إجاك الدور يا دكتور”، لم يكن النظام يعلم أنه أشعل فتيل بركان مكبوت منذ عقود. خرج السوريون يطالبون بالحرية… فواجههم بالرصاص. من السلمية إلى حمام الدم اختار النظام منذ اللحظة الأولى الحلّ العسكري. قنصٌ واعتقالاتٌ وتعذيبٌ ومجازر دفعت الحراك السلمي نحو العسكرة، مع انشقاق آلاف الضباط وتأسيس “الجيش الحر”.لكن سوريا سرعان ما تحوّلت إلى ساحة حربٍ متعددة الطبقات: انقلابٌ مسلّح على الشعب، صراع نفوذٍ إقليمي، وتدخلات دولية جعلت البلاد مسرحًا للحرب بالوكالة. الكارثة الإنسانية كانت بلا سقف:• ما بين 350 ألفًا ونصف مليون قتيل.• مئات الآلاف من المعتقلين والمختفين.• أكثر من 6.6 مليون نازح داخلي، و6.7 مليون لاجئ في الشتات.• دمار اقتصادي يُقدَّر بـ 800 مليار دولار.• فقرٌ يلتهم 90% من السوريين. كانت سوريا تتفكك أمام العالم… والعالم يكتفي بالتفرّج. منذ “الحركة التصحيحية” عام 1970، أنتج نظام البعث دولةً أمنيةً متغوّلة، عطّلت السياسة، وخنقت المجتمع، وأطلقت يد المخابرات لتتحكم في تفاصيل الحياة اليومية. أمراء الحرب وصنّاع القرار الحرب لم تكن سورية فقط. إيران ضخّت المال والسلاح والميليشيات. حزب الله دخل بثقله العسكري لحماية النظام. روسيا غيّرت قواعد اللعبة في 2015 حين قررت أن تمنع سقوط الأسد مهما كان الثمن. في المقابل، وقفت الولايات المتحدة وحلفاؤها في موقع المتردد، منشغلين بمحاربة “داعش”، تاركين المعارضة المعتدلة وحيدةً في مواجهة آلة القتل. تركيا دعمت فصائل المعارضة لكنها خاضت معاركها الخاصة على الحدود وضد النفوذ الكردي. ودول الخليج تنافست بدعم فصائل متباينة في سياق معركتها مع إيران. سوريا أصبحت لوحة شطرنج تعلوها رائحة البارود والخراب. بناء على ركام بعد سقوط النظام، واجهت الحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع إرثًا ثقيلًا. لكنّها نجحت في عامها الأول في إعادة وصل ما انقطع: فُتحت أبواب دمشق سياسيًا بعدما أُغلقت لعقدٍ كامل، واستعادت سوريا حضورها العربي والدولي. عادت العلاقات مع تركيا والسعودية وقطر، وبدأت سياسة جديدة تقوم على الانفتاح لا على العداء. في الداخل، أطلقت الحكومة مسار العدالة الانتقالية: تحرير المعتقلين، لجانٌ للبحث عن المفقودين، تحقيقات أولية في جرائم الحرب، وفتح ملفات حقوق الإنسان المغلقة منذ عقود. عاد أكثر من 3 ملايين لاجئ ونازح، وبدأت خطوات حقيقية لمحاربة الفساد، وتحريك عجلة الاقتصاد وجذب الاستثمارات وخطط إعادة الإعمار. الانهيار الإيراني… وتبدل الخرائط سقوط الأسد مثّل ضربةً قاصمة لإيران؛ ففقدت أحد أهم أعمدة نفوذها في الشرق الأوسط، واضطرت لسحب ميليشياتها وقواتها من سوريا.انكسر “محور المقاومة” سياسيًا وعسكريًا، بينما فتحت روسيا قنوات تواصل مع القيادة الجديدة لضمان استمرار مصالحها العسكرية. وبدأت سوريا الجديدة بالتموضع ضمن محيطها العربي، في خطوةٍ تعيد التوازن الإقليمي وتقلّل من منسوب التوتر الذي أشعلته سنوات الحرب. معركة المستقبل… لم تبدأ بعد برغم الانتصار، يواجه السوريون امتحانًا أصعب: بناء الدولة التحديات تملأ الطريق: إعادة الإعمار، تفكيك الميليشيات، استعادة الاقتصاد، ترسيخ العدالة والمحاسبة، وقطع الطريق أمام عودة الاستبداد بأي شكل. نجاح سوريا مرهون بإصرار شعبها، وبحكمة قيادتها، وبمدى استعداد العالم لتعويض سنوات الصمت عن المأساة السورية. فالسوريون لم يسقطوا نظامًا فحسب… بل دفعوا ثمنًا عن الإنسانية كلّها.
عامٌ على نهايةِ المجرمِ بشّار الأسد وسقوطِ نظامِ السفّاح وآلِ بيتِه.منذ أن دخل “الثوّار” دمشقَ فاتحين لعهدٍ جديدٍ من الحكمِ في سوريا، وإسرائيلُ تتعاملُ معهم وكأنّهم “حفنةٌ من الغوغاء” الذين يفتقرون الحدَّ الأدنى من “القوّة” العسكريّة التي قد تُهدِّد أمنَها المباشر، بعدما دمّرت السلاحَ السوريَّ “الخطير” وتركت للوافدين الجدد عشراتِ “الكلاشينكوف” تُؤهّلهم ليكونوا “شرطةً محليّة” لا أكثر.هذا ما تُريده قوى الاستعمار والاستيطان و”الرجلُ الأبيض” من الأنظمةِ القبليّة التي تنصِبُها علينا كمجموعاتٍ إثنيّة في هذا الجزء من العالم، كما في غيره كذلك. #### عمليةُ بلدةِ “بيت جنّ” التي حدثت في ريفِ دمشق منذ أيام، بين قوّةٍ إسرائيليةٍ توغّلت في أراضٍ سوريّة و”مقاومين” من أهالي البلدة قاتلوها وكبّدوها أكثرَ من 10 جرحى، إصاباتُ 3 منهم خطِرة، حدثٌ لافتٌ… لم يكن متوقَّعًا.اعتاد الإسرائيليّ، على مدى عامٍ منذ سقوط النظام، على غيابِ أيّ “ردِّ فعل” على فعله. لكن بضعةُ “كلاشينكوفات” أربكت حساباته ومسَلَّماته.لا يمكن تقديرُ حجمِ التغيير في المشهد الذي اعتدنا على رتابته منذ عام، لكنّ الأكيد أنّه تغيّر أو في طور التغيّر.بحسب المتداوَل، الذي حصل في “بيت جنّ”، أنّ قوّةً عسكريّةً إسرائيلية توغّلت في المنطقة لاعتقال 3 من ناشطي تنظيم “الجماعة الإسلامية”، بعد أيامٍ فقط على تصنيفها جماعةً إرهابية من قبل الولايات المتحدة الأميركية. وأدّى العدوان الإسرائيلي إلى استشهاد أكثر من 12 مدنيًا سوريًا. #### “سهمُ باشان” هو الاسمُ الذي أطلقَته إسرائيل على الهجوم العسكريّ الذي شنّته ضد الجيش السوريّ بعد سقوط نظام الأسد.“باشان” Bashan تسميةٌ توراتية، تُشير في الموروث الديني إلى أراضٍ جنوبَ سوريا، شرقيّ الأردن، شمالَ شرقِ الأردن، ويعتبرها اليهود جزءًا من «الأرض الموعودة».أسماءٌ دينيةٌ لتبريرِ عمليّاتها وتكريسِ روايتها الأيديولوجيّة. إيحاءٌ بأنّ العملية ليست مجرد عملٍ عسكريّ بل تنفيذٌ لحقٍّ تاريخيّ، دينيّ، وجوديّ.زعمت إسرائيل أنّها دمّرت ما بين 70% إلى 80% من القدرات العسكريّة الاستراتيجيّة للجيش السوريّ. كما أعلنت أنّها سيطرت على مناطقَ مما يُسمّى «المنطقة العازلة» في جنوب سوريا، الجولان، هضبة الجولان، ومناطقَ مجاورة. #### يمتلك أحمد الشرع سلاحًا أقوى من المخزون الاستراتيجي الذي تم استهدافه. يملك أبو محمد الجولاني زرًّا نوويًا إن أحسن استخدامه: إنّه الفوضى.“الفوضى الجهادية”، في وجه إسرائيل والأميركيّ والغرب بأسره.يتصرّف الغرب مع الشرع باعتبارهم السبب في وجوده على سفح جبل قاسيون، وهو يتصرّف كالتلميذِ النجيب الذي يريد إسعادَ أستاذه بالعلاماتِ العالية والتصرّفِ الحسن.لم يمتلك حاكمُ دمشقَ منذ تولّيه السلطةَ ترفَ أن يلتقطَ أنفاسه. دائمًا هناك ما يقلق راحتَه، وعليه هو أن يجد حلًّا لها… لهم.لكن، ماذا لو عكس الآية؟ لو جعل من نقاط ضعفه، نقاطَ قوةٍ تجعلهم يقلقون “هم” كما يقلق “هو” الآن؟ماذا لو غضّ النظرَ عن فصيلٍ أو فصيلين، أو مجموعةٍ أو مجموعتين غيرِ منضبطة ترى وجوبَ الجهادِ ضدّ إسرائيل وإزالتها من الوجود؟ لتغير الكثير من المعادلات الراهنة.حينها يصبح الشرعُ ضرورةً لضبطِ إيقاعِ الفوضى، وتصبح الغطرسةُ الإسرائيليةُ والاستخفافُ بالآخر على غير ما نراه الآن من عربدة لا تقيم وزنا لشي، لا في السياسة، ولا في العسكر ولا في الانسانية..غيرَ ذلك… لا يفهم بنو صهيون. فإن كانت العيون تترقب زيارة “البابا” لبلد الأرز، وإن كان الحدث المرتقب إسرائيلياً ما بعد الزيارة، فلتبقى العين على الرقعة السورية، لأنها قد تكون “المفاجأة” في القادم من الأيام، فلننتظر…