زيدان “النَّزِق”… الحجر لا البشر


في المنطقة الفاصلة بين “تاكسي الانطلاق” حتى مستديرة “ساحة القدس”، لا يزال كثيرٌ من الصيداويين يذكرون “دكانة” أحمد زيدان وأخوه محمد للسمانة والمواد الغذائية. لا يزال كثيرون، حتى بعد أن تجاوزت ثروة “أبو رامي” عتبة المليار والنصف دولار، يذكرون ماذا كان يجري هناك…
لصيدا ميزات كثيرة، إحداها أنها لا تنسى بسهولة، خاصةً حين يتعلّق الأمر بـ”القال والقيل” لا بعظائم الأمور الجوهرية.
أغنى الأغنياء
يجهد محمد زيدان، “أغنى أغنياء” صيدا اليوم، حتى بدون تصنيف رسمي من مجلة “فوربس”، لتكريس صورة الكاره للأضواء، المبتعد عن الإعلام والسياسة والشأن العام التفصيلي. لصفات شخصية بحتة تحدّه من فهم علم “عالم الميديا”، يحاول الرجل الابتعاد عن كل ما قد يشكّل “وجعة راس ويفتح الأبواب التي يفضّل أبو رامي أن تبقى موصدة”، لذا قد يكره صحافيًّا بسبب صورة. في تناقض حاد، يجمع زيدان في شخصيته بين البساطة الصيداوية وقساوة مزارعي التبغ في كوبا. ولأن “سطوة المال” مصحوبة بـ”نَزَق” شخصي، غالبًا ما تثير الرهبة في النفوس، يخشى كثيرون الخوض في الحديث عن ظاهرة “أبو رامي”، سواء على صعيد صيدا أو لبنان بشكل عام.
عملُ الخير
كأيٍّ من أصحاب الثروات، بعد تحقيق رقمٍ ما، وليس بدافع التهرب الضريبي حُكمًا، يبدأ الحديث عن سبل إنفاق بعض من هذا المال لتحسين حياة الناس وتكوين صورة “الإنسان المنيح”، فيكون التوجّه غالبًا نحو “العمل الخيري”. هكذا تولد الجمعيات والمؤسسات غير الربحية حول العالم، وجمعية محمد زيدان للإنماء في صيدا، ليست ببعيدة عن هذا العالم. يُجيد زيدان اختيار العاملين معه، لذا تجده حريصًا أن يُحيط نفسه منذ نعومة أظافره التجارية بكفاءات، كلٌّ حسب اختصاصه، بدءًا من الإدارة والقانون والمالية، وصولًا إلى الترفيه والإعلام مؤخرًا
حجارة البلد
ترميم بيوت وشوارع “البلد”، أي صيدا القديمة، واحدة من المشاريع الكبرى الأساسية لجمعية زيدان. في لحظةٍ ما، هناك من فاضت عبقريته واعتبر أن ترميم وإعادة اللون الأصلي لأحجار البلد هو أولى أولويات صيدا، وفي سبيل ذلك أُنفقت ولا تزال ملايين الدولارات.
لأنه أحسّ بالحرج أمام ضيوفه من الخارج حين زاروا “البلد” ورأوا “التعتير”، قرّر زيدان أن يُطلق ورشة إعادة الحجر للونه الأول، أن يُنظّف الطرقات من أوساخها، أن يُرمم أبواب الدكاكين في الأسواق، والبيوت الآيلة للسقوط على رؤوس ساكنيها.
في الظاهر، يحق للرجل أن يقرّر ما يشاء، وأن يعمل بماله ما يريد. في المقابل، وحين يصبح العمل الفردي ذو تأثير على الكيان الجماعي، يحق للعقل الجمعي أن يقول ما يراه حقًّا عن موضوع خرج من باب هوى النفس، وصار عملاً جماعيا شاملاً.
لم يخطر ببال زيدان أو أيٍّ من المحيطين به أن يُصار إلى افتتاح مركز لمعالجة آفة إدمان المخدرات، التي عانت منها “صيدا القديمة” وأبناؤها لسنوات، ولا تزال.
في الوقت الذي يُمزّق فيه الألم أحشاء أيمن ن. (شابٌ ثلاثيني، مفترض مدمن، يعيش في بيتٍ متهاوٍ في أزقة صيدا القديمة)، تنخر ضربات إزميل الحديد بيد أحد عمّال جمعية زيدان على جدران منزله الخارجي رأسه، لتزيد من آلامه التي لا يشعر بها إلا هو وآل بيته. صورة سوريالية، لحجر يُعاد تأهيله ولبشر يُتركون لمصيرهم الأسود.
هنا يبرز سؤالٌ مشروع: ما قيمة أن يستعيد الحجر رونقه، في وقتٍ تذبل فيه الروح الإنسانية الساكنة في المكان المُرمَّم؟ ما الذي يمنع أثرى أثرياء المدينة من افتتاح مركز لمعالجة الإدمان، وخلق فرص عملٍ مستدامة لشبابٍ وقعوا في هذه المصائب بسبب الجهل والفقر والاستغلال؟
سينبري من يقول إن زيدان يساهم في إطلاق العديد من المشاريع الخيرية، وأنه يُشغّل مئات الشباب الصيداوي في شركاته، خاصة في “السوق الحرة” التي استحوذ عليها في مطار بيروت منذ سنين.
أما الرد فسيكون: من المُعيب أن يكون بضع عشرات من الشبان ثمنًا بخسًا لملايين الدولارات المهدورة، والتي كان من الممكن أن تُصرف بشكلٍ أجدى، وهم الذين يعانون أصلًا من تدنٍّ في مستويات الرواتب، وظروف عملٍ غير عادلة، لناحية الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، والتفاوت الهائل بين الأرباح المحققة والرواتب الممنوحة. لكن ضيق الخيرات المتاحة، يجعلهم يصمتون.
أن تسحب أبناء المدينة للعمل في بيع التبغ والتنباك والخمور، خطيئة يُحاسب عليها…لا يُكرَّم فاعلها.
بين الظل وبُقعة الضوء
في كل مناسبة، يسعى أبو رامي إلى تأكيد ثابتتين: الأولى، أنه رجل أعمال شريف يقوم بكل ما يتوجب عليه لناحية الامتثال للقانون ودفع الرسوم والضرائب وحقوق العمال… والثانية، أنه لا يسعى وراء دورٍ أو منصب لنفسه، خاصة بحجم صيدا. فرفيق فيدل كاسترو، يتخبّط بين “ضيقة خلق شخصي” بعدم الرغبة في أن يُحدّ بدورٍ ضئيل، وفي الوقت نفسه، رغبة في المشاركة الفعلية بصناعة تفاصيل قرار المدينة. وهو ما تجلى فعليًّا في الانتخابات البلدية الأخيرة، التي أظهرت أن المال كان وسيبقى لاعبًا في تحديد مجريات الأمور، صغائرها قبل كبائرها. وأن القرارات الشخصية التي اتخذها زيدان حيال المرشحين والعملية الانتخابية برمّتها، ستدفع المدينة ثمنها غير المباشر في القادم من الأيام.
بين ابتسامته المحببة التي لا تفارق محيّاه، وبين تخبّط آني غير مدروس، وبعد كل هذا العمر والمال، يمكن لأبو رامي أن يلعب دور “الأب الأكبر” لمدينةٍ يحبها كما يحلو له هو. مدينة تتشظّى في معارك وجودية يومية.
لكن يبقى السؤال: أيّهما سيغلب؟ صوت العقل والعلم والتطوّر، أم الانفعال الظرفي غير محسوب العواقب؟
في العدد المقبل
- كيف تنام على سطح سفينة، وتراقب النجوم لتطمئن إلى بلوغ المرفأ المقصود، وتستفيق بعدها لتجد الحياة قد أصبحت "مانغا".
- مرفأ صيدا يا وجه السعد، ويبقى ما فعله مصطفى سعد جميلاً كبيراً من الصعب أن يُرد.
- في بيروت، الصحافة الأميركية تسأل: ما علاقة محمد زيدان بصفقات التبغ والتنباك والخمور مع الشركات الروسية المريبة؟ أي دور لكاتب سيرة زيدان الذاتية، حسن مقلّد، الموضوع على لائحة العقوبات الأميركية، بما كان يجري في سوريا أيام الأسد؟