بغضّ النظر عن الحجم الفعلي لتنظيم “فتح – العاصفة / القيادة الثورية – الخط الجديد”، إلا أن خروج بيانٍ باللّغة التي تَضمّنها، والمناخ العامّ الضبابيّ المتوتّر السائد بين عددٍ غير قليل من الفصائل الفلسطينية والمجموعات المسلّحة عقب زيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى بيروت، وطرح موضوع تسليم السلاح الفلسطيني على نارٍ حامية، يدعو إلى القلق، خاصّة لصيدا المجاورة لأكبر مخيمات الشتات الفلسطيني في العالم، وما يحتويه
مرّةً جديدة، مدينة صيدا في عين العاصفة، ولو “مُفترضة” هذه الأيام. قبل يومين، تناقلت مجموعات في مخيم عين الحلوة والمية ومية قرب صيدا بيانًا صادرًا عن جهةٍ تحت مسمّى “فتح – العاصفة، القيادة الثورية – الخط الجديد”، وهي تسمية تشير إلى تيارٍ متشدّد أو معارض للقيادة الرسمية لحركة فتح والسلطة الفلسطينية.
يُعيد هذا التيار إنتاج خطاب “فتح الانتفاضة”، التي انشقت عن منظمة التحرير في الثمانينيات بدعمٍ سوري، لكنه يُعيد صياغة سرديةٍ جديدة متمرّدة، تُركّز على لبنان كمسرحٍ للمواجهة. يتعامل البيان مع السلطة باعتبارها “خصمًا”، ويتّهمها بالخيانة والتنسيق الأمنيّ مع الاحتلال، في تعبيرٍ يعكس الأزمة العميقة داخل البيت الفلسطيني.
السيادة اللبنانية
اللافت أن البيان لا يعترف بسيادة الدولة اللبنانية أو بحقّها في ضبط السلاح داخل أراضيها، بل يُعيد الاعتبار إلى “الذات الثورية الفلسطينية” بوصفها المرجعية الوحيدة في المخيمات. هذا الأمر يُشكّل تحدّيًا مباشرًا لأي مشروعٍ لبنانيّ لإخضاع المخيمات لسلطة القانون، ويستدعي توتّرًا دائمًا بين الفلسطينيين والدولة اللبنانية. يُظهر البيان التمسّك بالكفاح المسلّح ليس كمجرد موقفٍ مبدئي، بل كوسيلة لتبرير استمرار وجود الفصائل في لبنان خارج أي رقابة.
إعلان البيان من "تراب مخيم عين الحلوة" في يوم الجمعة يُضفي بُعدًا شعائريًا عليه، وكأنّ المخيم هنا منطلق لعمل أكبر
السلاح كخطّ أحمر
يُعلن البيان السلاح كـ”خطّ أحمر”، ويُهدّد كلّ من يُفكّر بنزعه، مع توصيفه كرمزٍ للكرامة وحقّ العودة. هذا التصعيد يحمل دلالاتٍ أمنية خطيرة، لا سيّما إذا كانت هناك نيةٌ حقيقية لبنانية، إقليمية أو أُممية، لنزع السلاح في إطار مشاريع تسوية أو إعادة تنظيم المخيمات. كما يرفض البيان أي تنسيقٍ أمنيّ مع الجهات اللبنانية أو الفلسطينية أو حتى الدولية، ما يُشي بخوف هذه المجموعات من تحرّكٍ مشترك قد يؤدّي إلى تفكيك بنيتها العسكرية. وهو بذلك يُؤسّس لنمطٍ من “اللاشرعية المنظمة” يُمكن أن يُعيد إنتاج العنف في أيّ لحظة. والخطر في الموضوع أن البيان يدعو إلى التحشيد الشعبي داخل المخيمات، وتحديدًا في عين الحلوة. ما يفتح باب التساؤل عمّا قد يكون يُحضَّر لجولات عنفٍ جديدة، في حال أصرّ الطرف الآخر على تنفيذ خطط نزع السلاح.
إعادة إنتاج الهوية الثورية
يرفض البيان الهوية السياسية “المتصالحة”، ويُعيد تشكيل هوية ثورية صلبة، تُعرّف الفلسطيني في لبنان بأنه “لاجئ مقاوم”، لا كإنسانٍ يسعى للحقوق المدنية أو الحياة الكريمة. هذا الطرح يُعيد المجتمع الفلسطيني داخل لبنان إلى خانة “الاشتباك المستمر” بدل التكامل أو التفاوض.
البيان كُتب بلغةٍ بيانية تُشبه الخُطب العسكرية من السبعينات، واستخدم لغة التخوين لتوصيف كلّ من يُخالف هذا الخط، ما يُعمّق الانقسام النفسي والاجتماعي داخل المخيمات، ويخلق مناخًا من القلق والتهديد ضدّ الفئات المعتدلة أو غير المُسيّسة.
إعلان البيان من “تراب مخيم عين الحلوة” في يوم الجمعة (رمزية دينية وسياسية) يُضفي بُعدًا شعائريًا عليه، وكأنّه صلاة ميدانية للثورة. المخيم هنا ليس مكانًا، بل هو “مسجد للمقاومة”، يُعطى وظيفة روحية.
كُتب البيان بأسلوبٍ جاهزٍ للنشر الرقمي – مُحمَّل بالشعارات والاقتباسات والنداءات – ليُستخدم كمنشورٍ فيسبوكي، أو كخطابٍ على قناة يوتيوب ثورية. هذا يُظهر أنّ الجهة المُصدِرة تُدرك جيدًا أهمية السردية البصرية واللغة الرقمية في الصراع الرمزي.
البيان وثيقةُ مواجهةٍ قد تُؤسّس لحالة تمرّد داخل النظام الفلسطيني – اللبناني، وقد تُؤشّر إلى مواجهة ثلاثية الأضلاع
مع السلطة الفلسطينية وتيار التسوية
الدولة اللبنانية
ومشاريع تسليم السلاح غير الشرعي
فصائل ومجموعات أخرى
ومع كلّ محاولة لتفكيك رواية "المخيم المقاتل"
إذا كانت السلطة اللبنانية تمضي في خططها لسحب السلاح، فإنّ هذا البيان قد يكون بمثابة “إعلان اشتباك”، يُشعل أولى الجبهات الرمزية قبل أن تتحوّل إلى ميدانية. مرّة جديدة، قد تدفع مدينة صيدا ثمنًا إضافيًا باهظًا إلى فواتير كثيرة دفعتها بحكم الموقع والخيار… لكنّ الصيداويين هذه المرّة أرهقوا من المغامرات العبثية، والوضع العام لم يعد يُساعد…