تحميل

إبحث

في الصميم

صيف هانئ…”كاوبوي” على سُلّم المستوصف الصحي

saida horse

بعضُ الأيّام الصيداويّة تكونُ أميركيّةً بامتياز. بدأتُ يومي صباحًا بزيارة أحد المستوصفات الطبيّة في المدينة، التابعة لمؤسّسةٍ كانت مُدرَجة منذ سنوات على “لائحة مكتب مراقبة الأصول الأجنبية” الأميركي، باعتبارها وصاحبها وكلّ شركاته الأخرى جزءًا من شبكة تبييض أموال ومخدّرات عالميّة لا تبتعد كثيرًا عن إيران وحلفائها في المنطقة

بعد ما يقارب سنة، رُفِعت العقوبات الأميركيّة عن “رجل الأعمال” صاحب هذه المؤسّسة، التي تَكيل مواقع “الصحافة” المحليّة في المدينة، كلّ شهر لها، عشرات العناوين المادحة لإحسانها ودورها الاجتماعي، فيما ترتفع إحدى سنابل الخير التي ترمز لها، مُشعّة على مستديرة رئيسيّة في صيدا.

لا يُزرَع القمح في صيدا، ولكن الكثير من الحمضيّات المُلائمة من أجل الساديّة التي يفرضها رجال الأعمال “الخيرون” على شعبها المسكين، الذي يرزح أكثر من رُبعه، رسميًّا، تحت خطّ الفقر.

في هذا الصباح الأميركي، كنتُ قد اختبرتُ شخصيًّا نوعًا من هذه الساديّة، إذ تبيّن لي أنّ المستوصف يطلب من زوّاره أن يحضروا عند السابعة إلّا رُبعًا صباحًا، لكي يدخلوا إلى عيادة طبيب معيّن، متخصّص في الأنف والأذن والحنجرة.

اللعبة على هذا الشكل: لدينا طبيبٌ يُحبّ أن يبدأ عمله من باكر الصباح، لكنّه لا يُحبّ، أو لا يتمكّن، من معاينة أكثر من 10 مرضى، وإن كنتَ محظوظًا، بوسعك أن تكون أحدهم!

  • متى إذًا يجب عليّ القدوم؟ متى يبدأ الطبيب؟
  • السابعة والنصف، بوسعك أن تحضر السابعة والربع.
  • هل يأتي غدًا؟
  • لا، بعد ستّة أيّام، يأتي مرّة واحدة في الأسبوع.

حسنًا، أشعر أنّ أذني ستتدهور حالتها، لكن لا خيار لديّ إلّا الانتظار. طالما أنا أنتمي إلى قضايا الشعب، عليّ أن أكون واحدًا منهم، و”اللّي بيصير عليهم بيصير عليّ”. شكرًا لكِ.

بعد أسبوع، جاءت الليلة الموعودة. تمّ ضبط المنبّه. لكنّ المنبّه البيولوجي الداخلي قلق من أن يخذله منبّه الهاتف الخارجي.

النتيجة: ليلة من الأرق. عيونٌ منفوخة. مزاج غير رائق. لكن ما باليد حيلة. فاتورة الكفاح الصيداوي عالية، والطبيب، قيل إنّه ماهر، لذلك، له الحقّ أن يُحدّد السياسة التي تُناسبه.
ساندويش لبنة، وفنجان قهوة، وأغنية لفيروز، وصعودٌ سريعٌ على سُلّم العيادة، كأنّك عنصر “أف بي آي” تُداهم مكانًا شائكًا، لتكون المفاجأة: رُدْهةُ المستوصف تعجُّ بالناس: نساء ورجال، عجَزة وأطفال… متى أتوا؟

تحضر موظفة الاستقبال إلى دوامها عند الساعة السابعة إلّا عشر دقائق، وعلامات النوم والوَجَل بادية على محياها. تعلنها واضحة: سنستقبل أوّل عشرة، وهناك في الأساس خمسة، زوّدنا الطبيبُ بأسمائهم مُسبقًا!

اللعبة باتت على هذا النحو: المستوصف يُزوّد المرضى بمعلومات خاطئة. الطبيب يضع شروطًا صارمة عن عشرة مرضى فقط يُعاينهم، لكنّه، عبر ورقة إضافيّة (سريّة!) يُشحِل العدد إلى نصفه.

النتيجة: ثمّة 11 شخصًا، وأنا منهم، تحمّلوا عناء الانتظار، وليالي الألم، وكوابيس الأرق، وكفاح الاستيقاظ المبكر، لكي يتمّ التضحية بهم، في باكر الصباح ذاته، الذي شهد “تضحية” النظام الإيراني بـ”خِيرة” قادته الأمنيّين، عبر عدم مكافحة العملاء الذين سمحوا لقاعدة مسيّرات إسرائيليّة أن تدخل إلى قلب طهران.

اللعبة باتت على هذا النحو: المستوصف يُزوّد المرضى بمعلومات خاطئة. الطبيب يضع شروطًا صارمة عن عشرة مرضى فقط يُعاينهم، لكنّه، عبر ورقة إضافيّة (سريّة!) يُشحِل العدد إلى نصفه
poor and doctor
لا يُزرَع القمح في صيدا، ولكن الكثير من الحمضيّات المُلائمة من أجل الساديّة التي يفرضها رجال الأعمال "الخيرون" على شعبها المسكين، الذي يرزح أكثر من رُبعه، رسميًّا، تحت خطّ الفقر.

إيران وإسرائيل مسؤولتان عن التضحية بازدهار بلادنا وأعمارنا ونماء عائلاتنا وفرص أبنائنا بتعليم وصحّة وعمل، على مدى عقود طويلة، وهما تتقاتلان اليوم، فيما أتقاتل أنا من أجل “حقوق المريض” في المستوصف الذي كان مُدرجًا منذ سنوات على لوائح العقوبات الأميركيّة ضدّ الإرهاب. تلك مفارقات لا يمكن أن تحدث إلّا في لبنان، وطن المفارقات الصارخة.

أقرّر أن أبتع قاعدة طاقيّة تأمليّة بسيطة: “أفضل المعارك هي التي تترفّع عن خوضها”.
أُدير ظهري، وأرمي قبل مغادرتي عبارة: “ما هذه السخافة؟”، كتذكار بسيط مهمّته ذرّ قليل من الرماد في عيون “سيستم” المستوصف الذي يُذلّ البشر، ويعرّضهم للعبة يانصيب، أو لأجواء “البقاء للأبكر”.
تسخر سيّدة من الوضع وتشاركني الغضب: “هل يتوجّب علينا أن ننصب خيمة وننام قبل ليلة من أجل أن نحصل على رعاية طبيّة مدفوعة؟”

تمسك المستوصفاتُ الناسَ من أياديها وأعناقها وكراماتها، لأنّ البديل بالطبع: عيادات خاصّة، للأطبّاء ذاتهم، يدفع لقاء التحدّث معهم لدقائق، بدلًا يبدأ من خمسين دولارًا، في بلدٍ لا يتنطّح الحدّ الأدنى للأجور فيه فوق 350 دولارًا.

أقرّر الذهاب إلى الشاطئ، علّ البحر، كعادته، يشفيني مباشرةً من الصدمات الفُجائيّة.
على الرمال، نثار من بطن مخدّة مذبوحة، يرسم خطًّا شاعريًّا، يُذكّر بمستوى فيديوهات كليب الأغاني من حقبة التسعينيّات التي كانت تُعرض على تلفزيون “سيغما 90” الجماهيري وقتها في صيدا.

أرى خيولًا تسبح في الماء. يُذكّرني ذلك بمشهد أميركي آخر شهير: راعي بقر على حصان يدخل مياه البحر، مشهد كلاسيكي يرتبط غالبًا بسباحة مهور شينكوتيج، وهو تقليد عريق في ولاية فرجينيا.
يتضمّن هذا الحدث سباحة مهور بريّة عبر قناة من جزيرة أساتيج، ويُساعد “رُعاة بقر المياه المالحة” في السباحة ومرافقة المهور.
يُساعد متطوّعون، كثيرٌ منهم من إدارة الإطفاء ولديهم تاريخ عائلي في هذا الحدث، في توجيه المهور ومرافقتها أثناء السباحة.
وقد تمّ ذكر هذا الحدث في الكتب الأدبيّة، مثل رواية “ميستي أوف شينكوتيج”، وكان مصدر إلهام لعشّاق الخيول لأجيال.

 

أقول لنفسي: "إتس أوكي، يو وِل بي سيف"، محاولًا الإفادة من "الوحي" الأميركيّ الصارخ في هذا الصباح الصيداوي.
al-Post
مدونة في سلسلة (3)
عن صيدا وأشياء أخرى...
العلامات

يعجبك ايضاً

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا